الحقيقة
يجب التمييز بين الواقع والحقيقة. لأن الحقيقة مرتبطة بالحكم الصادر عن الإنسان. لذلك فتعدد الأحكام يطرح مسألة صحتها أو خطأها. وبالتالي تعدد معايير الحقيقة وقيمتها التي ترتبط بسلطتها وأهميتها في الصراعات الاجتماعية.
المحور الأول: الرأي والحقيقة:
الرأي هو الفكرة الشخصية التي لم نحصل عليها باستعمال منهج علمي أو فلسفي وهو معطى جاهز ومباشر تنتجه الحواس والتجارب الخام.
بالنسبة لغاستون باشلار: "يتعارض العلم مع الرأي. إن الرأي خاطئ على الدوام. وهو تفكير سيء بل لا يفكر البتة، فهو يترجم الحاجات إلى معارف. وبتعيين الأشياء حسب فائدتها، يمتنع عن معرفتها. لا يمكن تأسيس أي شيء على الرأي، بل ينبغي هدمه. فالرأي هو أول عائق يلزمنا تخطيه".
يعتبر باشلار الرأي عائقا ابستملوجيا ينبغي إحداث قطيعة معه، ويسمي هذه القطيعة بالقطيعة الابستمولوجية، أي التي تحدث على مستوى المعرفة. فالحقيقة تنتمي لمجال مختلف تماما حيث أنها تبنى اعتمادا على منهج علمي تتضافر فيه كل من التجربة والعقل ولا يترك فيه مجال للمعطيات الجاهزة أو الأفكار المسبقة أو كل ما يرتبط بالتجربة العامية.
أما ديكارت فيرى أنه من واجب كل إنسان يبحث عن الحقيقة أن يشك مرة واحدة في حياته في جميع معارفه بل أن يشك في كل شيء إلى أن يصل إلى ما لا يقبل الشك وهو البديهي العقلي المتميز بالوضوح والتمايز، أو الحس العقلي أو البداهة العقلية المتمثلة في الكوجيطو: "أنا أفكر إذن أنا موجود"، وتم استنتاج حقائق أخرى من هذا الحقيقة التي تعتبر أساسا ومنطلقا. وهكذا فجميع الأفكار التي كانت لنا قبل الشك تعتبر آراء، أما بعد الشك فتصبح أفكارا حقيقية ويقينية.
وينمكن الإشارة إلى موقف أفلاطون الذي يرى أن عالم الحس هو عالم الرأي، أما عالم المثل فهو عالم الحقيقة وأنهما يتعارضان ويتناقضان في كل شيء، وأن الفيلسوف وحده قادر على بلوغ عالم المثل عبر التذكر لأن المعرفة تذكر والجهل نسيان.
المحور الثاني: معايير الحقيقة:
بما أن الحقائق متعددة تبعا لتعدد المنظورات والمذاهب فلا بد من توفر معايير تميز الحقيقة عن الخطأ حسب المذهب المحدد.
ديكارت: معيار الحقيقة هو البداهة العقلية أو الحس العقلي اعتمادا على الشك المنهجي الذي يجب تمييزه عن الشك المذهبي. ويقدم نموج الكوجيطو مثالا على هذا المعيار لأنه يدل على عجز العقل والحواس عن بلوغ الحقيقة وعدم الثقة فيهما لوقوعهما في الخطأ.
سبينوزا: ونجد نفس الأمر تقريبا عند سبينوزا الذي يقول "أن من لديه فكرة صحيحة يعلم في نفس الوقت أن لديه فكرة صحيحة، ولا يمكن أن يشك في صدق معرفه" ويضيف "إن المعرفة هي معيار ذاتها وعيار الخطأ مثلما أنه بانكشاف النور ينقشع الظلام".
ليبنتز: ينتقد ليبنتز موقف ديكارت بقوله: "لقد اسكن ديكارت البداهة العقلية في فندق ونسي أن يمدنا بالعنوان".
ويتهم معيار ديكارت بالضعف لغموض مفهومي الوضوح والتمايز، ويقترح معيارا آخر استعمل منذ أرسطو والرياضيين وهو معيار البرهنة العقلية على أساس منطقي رياضي.
فوكو: معيار الحقيقة هو السلطة لأن "الحقيقة ليست خارج السلطة وليست بدون سلطة". بحيث نجد أن كل مجتمع له نظامه الخاص بإنتاج الحقيقة وسياسته الخاصة حول الحقيقة. ففي المجتمع الغربي على سبيل المثال نجد أن:
- الحقيقة السائدة هي الحقيقة العلمية دون غيرها.
- وأن السبب في الاهتمام بها هو اقتصادي وسياسي
- وأنه يتم نشرها واستهلاكها عبر أجهزة الإعلام والتربية.
- أنه تتم مراقبة إنتاج الحقيقة من طرف الدولة
- وأن الكل يعمل من أجل امتلاك الحقيقة لأنها سلطة.
إذن لا توجد معايير كونية وشاملة بل يجب البحث عن الحقيقة في كل مجتمع حسب أنظمته السياسية والاقتصادية.
المحور الثالث: قيمة الحقيقة:
1. قيمة الحقيقة هي المنفعة:
حسب الفيلسوف الأمريكي وليم جيمس، ترتبط الحقيقة بالمنفعة. وهذا الارتباط ضروري لأن السؤال عما يميز الفكرة الصحيحة عن الفكرة الباطلة سؤال مشروع، إذ لا يجب أن تكون النتيجة هي نفسها حين نتبنى فكرة صحيحة وحين نتبنى فكرة خاطئة.
فالكرة الحقيقة لها امتيازات منها أنها هي التي لها مفعول في حياتنا وتترتب عنها نتائج تغير شيئا ما في حياتنا وهكذا يتضح أن قيمة الحقيقة تكمن في فعلها وفعاليتها ونفعها وفائدتها.
يقول وليم جيمس: "إن الحقيقي هو ما يفيد " .
2. قيمة الحقيقة تكمن في أخلاقيتها:
- الواجب الأخلاقي اللامشروط حسب كانط هو الذي يجعل من الإنسان كائنا أخلاقيا، ويعتمد على القاعدة التي تنظم تصرف الإنسان: "عليك أن تتصرف وكأنك تتصرف باسم الإنسانية جمعاء. عليك أن تتصرف بناء على أن ما تقوم به تجاه الآخرين هو ما تود أن يقوموا به تجاهك".
3. لا وجود لأية قيمة للحقيقة:
يرى نيتشه أن مصلحة الفرد في أن يعيش داخل الجماعة البشرية بطريقة سلمية يجعله يقبل بوجود ما يسمى حقيقة، أي ما يفيد ويمتع ويحفظ الحياة. أما المعرفة الخالصة وغير المثمرة فلا يهتم بها أحد.
فالحقيقة هي وهم مفيد، أي أن الحقائق هي أوهام ترسخت بفعل الاستعمال والمنفعة الناتجة عنها.
فأن يقول المرء الحقيقة معناه أن يردد ما يعتبره مجتمعه حقيقة.
يقول نيتشه: "إن الحقيقة تقتل، بل أكثر من ذلك إنها تقتل نفسها عندما تكتشف أن أساسها هو الخطأ